الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن
.ثانيا- الكلمة القرآنية: .أ- جمال توقيعها في السمع: .ب- اتساقها مع المعنى: .ج- اتساع دلالتها، لما لا تتسع له دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات عادة: وهذه الميزات الثلاث قلما يتخلف اجتماعها في كلمات القرآن، بينما لا تجتمع في غيره إلا نادرا، وما ذاك إلا لأن القرآن من كلام رب العالمين. .ثالثا- الجملة القرآنية وصياغتها: .أ- التلاؤم والاتساق بين كلماتها: .ب- الدلالة بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل: .ج- إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس: .رابعا- جلال الربوبية وكبرياء الألوهية في آياته: وبيان ذلك: أن الكلام مرآة لطبيعة المتكلم، تتجلى فيما يكتب أو يقول، وتزداد وضوحا كلما تنوعت أبحاثه ومواضيعه. وإذا كان في مقدور الإنسان أن يظهر بصورة طبيعية أخرى، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى حد التناقض، بحيث ينطبع بخصائص البشرية تارة، وبخصائص الألوهية أخرى. وإذا كان هذا غير ممكن، فلا يمكن لإنسان ما أن يصوغ كلاما ينشر من حوله عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية في صياغة لا تكلف فيها ولا تمثيل، كما هو ظاهر في كلام الله عزّ وجلّ. واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [طه]. واقرأ- أيضا- قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون]. وانظر- بعد ذلك- إلى هذا الكلام الذي يتنزل من عرش الربوبية، ويغمر النفس بالرهبة والجلال، هل يمكن لبشر أن يصطنعه اصطناعا، وأن ينطبق به تمثيلا، أو يتحلى به تزويرا؟! .خامسا- التصوير الفني في القرآن: .تمهيد: وإذا كان التصوير تثبيتا للظل الصامت، أو مجموعة خطوط وألوان متجمعة، تضع أمام الرائي لوحة قد تثير في ذهنه معنى من المعاني، أو تنقل إلى مخيلته مشهدا من المشاهد، فإن التصوير القرآني أوسع من هذا بكثير: فهو تحويل الحروف الصوتية الجامدة إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة، حسب الحاجة والطلب، لتحيل- بدورها- المعاني المعتادة إلى صور يتأملها الخيال، ويدركها الشعور، وتكاد العين أن تستوعبها قبل أن يستوعبها العقل. وهو- كما يقول صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن- تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكذلك: هو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة. .1- مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله: .أ- مظاهره: .1- إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى الذهني المجرد إلى الصورة المحسوسة والمتخيلة: وخذ مثالا على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} [الأعراف: 40] وانظر كيف ترسم في الخيال صورة لتفتح أبواب السماء، وأخرى لولوج الجمل- وهو ذكر الجمل أو الحبل الغليظ- في سم الخياط، ويترك الحس يتأثر- عن طريق الخيال- بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤلاء المكذبين المستكبرين عن آيات الله تعالى. ويدخل في هذا المظهر تصوير الحالات النفسية والمعنوية: فالتصوير القرآني كما أنه يخرج المعاني الذهنية بصورة حسية، كذلك يخرج الحالات النفسية والمعنوية صورا شاخصة أو متحركة، ويعدل بها عن التعبير المجرد إلى الرسم المصور. ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] إذ تصور لنا ذلك التردد- الذي يحار فيه ويتبلبل ذلك الإنسان الذي لم ترسخ العقيدة في قلبه؛ ولم تتضح صورة الإيمان في نفسه- بصورة إنسان يقوم ليؤدي عبادة على أرض لا تستقر عليها أقدامه، وإلى جنبه واد عميق يخشى السقوط فيه، فهو قلق مضطرب. .2- التخييل الحسي: ومن أمثلة ذلك: أ- قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. فانظر كيف استحالت الأرض الجامدة كائنا حيا، بلمسة واحدة، في لفظة واحدة (اهتزت) وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه، حتى إذا مس الماء أحشاءه عادت إليه الحياة وانبعث فيه النشاط. ب- قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] فالحياة تخلع- في هذه الآية- على الصبح وكأنه أصبح كائنا حيا يتنفس، فتتنفس معه الحياة، وتشرق بإشراقة من ثغره، ويدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض والسماء. .3- التجسيم والتضخيم: ومن أمثلة ذلك: أ- قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]. فانظر: كيف تجسم الأعمال السيئة وكأنها أحمال مثقلة، تنوء بحملها ظهور أولئك الفاسقين يوم القيامة. ب- قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5] ففيه تضخيم وتفظيع لافترائهم على الله تعالى بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4]. .ب- وسائله: .1- الوسائل القريبة: واقرأ إن شئت قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] وقوله تعالى: {إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] وقوله تعالى: {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً} [الكهف: 99] وانظر إلى ما فيها من استعارات وتمثيل. واقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] وانظر إلى ما فيها من روعة التشبيه. وقوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. وأما المجاز المرسل فاقرأه في مثل قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} [غافر: 13] وإنما الذي ينزل سبب الرزق وهو المطر، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22] والنعيم معنى يحل في مكان يكون فيه الأبرار، وفي قوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] والمولود لا يكون فاجرا إلا باعتبار ما سيكون. .2- الوسائل البعيدة: على أنه ليس بمقدور الفكر الإنساني: أن يقف على القاعدة التي يتم بها تصوير اللفظ القرآني للمعنى، ليتخذها ضابطا في صياغة الكلام، بل كل ما في الإمكان أن يعلم ويحس: أن اللفظ القرآني يصور المعنى ويلصق صورته وشكله بالإحساس، بتأثير من تناسق حروفه وحركاته، وتركيب مفرداته وجمله. والأمثلة على ذلك القرآن كله: واقرأ إن شئت- على سبيل المثال- قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] ليتصور في خيالك ذلك الجسم المتثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل وكأنه القناطير المقنطرة من الأثقال، كل ذلك يرسمه في خيالك هذا اللفظ المختار (اثاقلتم). - واقرأ أيضا قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] لترتسم صورة التباطؤ في جرس العبارة كلها، وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها. - واقرأ كذلك أول ما نزل من القرآن من سورة العلق، لترى ذلك التناسق بين المعاني والأهداف، وذلك الجرس الموسيقى الأخّاذ إذ يقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5].
|